الحق في التعليم في مصر
بقلم : دكتور سامي نصار
أستاذ أصول التربية -كلية الدراسات العليا للتربية

الحق في التعليم، في حد ذاته، حق مؤسس لباقي حقوق الإنسان، فهو وسيلة لا غنى عنها لإعمال حقوق الإنسان الأخرى. فالتعليم، بوصفه حقاً مؤسساً، يعتبر الأداة الرئيسية التي يمكن بها للكبار والصغار، ذكوراً ونساءً، والمهمَّشين اقتصادياً واجتماعياً، أن ينهضوا بأنفسهم من الفقر وأن يحصلوا على فرصة المشاركة الكاملة في مختلف مناشط مجتمعاتهم الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية.
ومن هذا المنطلق كانت حقوق الإنسان، ومن بينها الحق في التعليم، محلاً لاهتمام المجتمع الدولي ومقارباته، تأسيساً وتأصيلاً ودعوة لدول العالم لاستدماجه في دساتيرها وتشريعاتها وخططها وبرامجها التنموية. كما كانت استجابات الدول كبيرة وبذلت الكثير من الجهود لنشر التعليم باعتباره حقا لمواطنيها وإن تفاوتت فيما بينها في مفهوم هذا الحق ونطاقه وفي تطبيقه وفي إنجازاتها في هذا المجال.
أولا: الحق في التعليم: منظور عالمي:
كان حق الإنسان في التعليم جزءاً أصيلاً من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948حيث تنص المادة 26 من هذا الإعلان على أنه:
1. لكلِّ شخص حقٌّ في التعليم. ويجب أن يُوفَّر التعليمُ مجَّانًا، على الأقل في مرحلتيه الابتدائية والأساسية. ويكون التعليمُ الابتدائيُّ إلزاميًّا. ويكون التعليمُ الفنِّي والمهني متاحًا للعموم. ويكون التعليمُ العالي مُتاحًا للجميع تبعًا لكفاءتهم.
2. يجب أن يستهدف التعليمُ التنميةَ الكاملةَ لشخصية الإنسان وتعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية. كما يجب أن يعزِّز التفاهمَ والتسامحَ والصداقةَ بين جميع الأمم وجميع الفئات العنصرية أو الدينية، وأن يؤيِّد الأنشطةَ التي تضطلع بها الأممُ المتحدةُ لحفظ السلام.
3. للآباء، على سبيل الأولوية، حقُّ اختيار نوع التعليم الذي يُعطى لأولادهم."
وفي منتصف الستينيات من القرن الماضي صدر العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2200 المؤرخ في 16 ديسمبر 1966 وتحدد تاريخ بدء تنفيذ هذا العهد اعتباراً من يناير 1976، وقد أقرت الدول الموقعة على هذا العهد الأهداف التي تتغياها التربية والتعليم والتي حددتها المادة 13 منه على النحو التالي:
"وجوب توجيه التربية والتعليم إلى الإنماء الكامل للشخصية الإنسانية والحس بكرامتها وإلى توطيد احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية. وهي متفقة كذلك على وجوب استهداف التربية والتعليم تمكين كل شخص من الإسهام بدور نافع في مجتمع حر، وتوثيق أواصر التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الأمم ومختلف الفئات السلالية أو الإثنية أو الدينية، ودعم الأنشطة التي تقوم بها الأمم المتحدة من أجل صيانة السلم."
ويتضح من هذه المادة أن هذا العهد لم يتوقف عند حدود الأهداف التقليدية للتربية والتعليم، بل تجاوزها إلى آفاق أرحب تنشد غايات إنسانية كبرى وتتجاوز النطاقات القومية والإقليمية من أجل تحقيق السلم العالمي من خلال ترسيخ قيم التسامح والتعايش واحترام الآخر.
كما أقرت الدول الموقعة على هذا العهد بالتزامها بتطبيق ما يلي:
1. جعل التعليم الابتدائي إلزامياً وإتاحته مجاناً للجميع.
2. تعميم التعليم الثانوي بمختلف أنواعه، بما في ذلك التعليم الثانوي والمهني، وجعله متاحاً للجميع بكافة الوسائل المناسبة ولا سيما بالأخذ تدريجياً بمجانية التعليم.
3. جعل التعليم العالي متاحاً للجميع على قدم المساواة، تبعاً للكفاءة، بكافة الوسائل المناسبة ولا سيما بالأخذ تدريجياً بمجانية التعليم،
4. تشجيع التربية الأساسية أو تكثيفها، إلى أبعد مدى ممكن، من أجل الأشخاص الذين لم يتلقوا أو لم يستكملوا الدراسة الابتدائية،
5. العمل بنشاط على إنماء شبكة مدرسية على جميع المستويات، وإنشاء نظام منح واف بالغرض، ومواصلة تحسين الأوضاع المادية للعاملين في التدريس.
ويمتد نطاق الحق في التعليم في هذا العهد ليتضمن تعهد الدول الأطراف "باحترام حرية الأباء، أو الأوصياء عند وجودهم، في اختيار مدارس لأولادهم غير المدارس الحكومية، شريطة تقيد المدارس المختارة بمعايير التعليم الدنيا التي قد تفرضها أو تقرها الدولة، وبتأمين تربية أولئك الأولاد دينياً وخلقياً وفقاً لقناعاتهم الخاصة".
ومن الجدير بالذكر أن مصر قد وقعت على هذا العهد في أغسطس 1967 واستكمالاً للجهود الدولية لضمان الحق في التعليم، تأتي اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة الموقعة في ديسمبر 1979 وبدء تنفيذها في سبتمبر 1981. وتنص المادة العاشرة من هذه الاتفاقية على ضرورة أن تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة لكي تكفل لها حقوقاً مساوية لحقوق الرجل في ميدان التعليم، ومن أهم هذه التدابير:
1. وضع شروط متساوية بين الجنسين للالتحاق بالتعليم والحصول على الدرجات العلمية في المؤسسات التعليمية على اختلاف فئاتها، وفي المناطق الريفية والحضرية على السواء، وتكون هذه المساواة مكفولة في مرحلة الحضانة وفى التعليم العام والتعليم التقني العالي، وكذلك في جميع أنواع التدريب المهني.
2. ضمان المساواة في المناهج الدراسية، وفى الامتحانات، وفى مستويات مؤهلات المدرسين، وفى نوعية المرافق والمعدات الدراسية.
3. القضاء على أي مفهوم نمطي عن دور الرجل ودور المرأة في جميع مراحل التعليم بجميع أشكاله، عن طريق تشجيع التعليم المختلط، وغيره من أنواع التعليم التي تساعد في تحقيق هذا الهدف، ولا سيما عن طريق تنقيح كتب الدراسة والبرامج المدرسية وتكييف أساليب التعليم.
4. المساواة في فرص الحصول على المنح والإعانات الدراسية الأخرى.
5. المساواة في فرص الإفادة من برامج مواصلة التعليم، بما في ذلك برامج تعليم الكبار ومحو الأمية، ولا سيما البرامج التي تهدف إلى التعجيل بقدر الإمكان بتضييق أي فجوة في التعليم قائمة بين الرجل والمرأة.
6. خفض معدلات تسرب الطالبات من المدارس، وتنظيم برامج للفتيات والنساء اللائي تركن المدرسة قبل الأوان.
7. المساواة في فرص المشاركة النشطة في الألعاب الرياضية والتربية البدنية.
8. إمكانية الحصول على معلومات تربوية محددة تساعد على كفالة صحة الأسر ورفاهها، بما في ذلك المعلومات والإرشادات التي تتناول تنظيم الأسرة.
كما أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1989 اتفاقية حقوق الطفل التي دخلت حيز التنفيذ عام 1990. وقد أقرت الدول الموقعة على هذه الاتفاقية بحق الطفل في التعليم والعمل تدريجياً على إعمال هذا الحق على أساس تكافؤ الفرص التعليمية من خلال جعل التعليم الابتدائي إلزامياً ومتاحاً ومجانياً للجميع، واتخاذ كافة الإجراءات من أجل تطوير شتى أشكال التعليم الثانوي العام منه والفني وتشجيع الالتحاق به من خلال إقرار مجانيته وتقديم العون المالي لغير القادرين، وكذلك العمل على تشجيع الأطفال على الانتظام في الدراسة وخفض معدلات التسرب بينهم، وكذلك اتخاذ التدابير المناسبة لضمان إدارة المدارس على نحو يحفظ للطفل كرامته الإنسانية.
ويتضمن حق الطفل في التعليم، حسب هذه الاتفاقية، ما يلي:
- تنمية شخصية الطفل ومواهبه، وقدراته العقلية والبدنية إلى أقصى إمكاناتها.
- تنمية حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
- تنمية احترام الطفل، وهويته الثقافية، ولغته، والقيم الوطنية للبلد الذي يعيش فيه الطفل والبلد الذي نشأ فيه في الأصل والثقافات المختلفة في حضارته.
- إعداد الطفل لحياة تستشعر المسئولية في مجتمع حر بروح من التفاهم، والسلم، والتسامح، والمساواة بين الجنسين، والصداقة بين الشعوب، والجماعات الوطنية والدينية، والأشخاص الذين ينتمون إلى السكان الأصليين.
- تنمية احترام البيئة الطبيعية، وفي هذا السياق فإن الطفل المعاق له حقوق يجب أن يتمتع بها مثل الطفل الطبيعي.
ويأتي المؤتمر الدولي للتعليم للجميع الذي عقد في "جومتيين" بتايلند الذي عقد عام 1990 للتأكيد على حق الإنسان في التعليم من خلال:
- توسيع وتحسين رعاية وتربية الطفولة المبكرة وبخاصة الأطفال المعاقين.
- أن يصبح جميع الأطفال وبخاصة الفتيات وذوي الاحتياجات أقليات عرقية قد التحقوا بالتعليم الابتدائي المجاني.
- إزالة كافة أشكال التفاوت بين الجنسين في جميع مراحل التعليم.
- تحسين جودة التعليم وضمان التميز للجميع بحيث يحقق جميع الطلاب نتائج جيدة ومعترف بها.
وقد تعهدت الدول المشاركة في هذا المؤتمر، ومن بينها مصر، بتنفيذ هذه الأهداف وغيرها بحلول عام 2015. (المؤتمر العالمي حول التربية للجميع 1990)
وفي مستهل القرن الحادي والعشرين جاء إعلان المؤتمر الدولي السادس لتعليم الكبار الذي عقد في بيلم بالبرازيل عام 2009، ليؤكد على التربية المستديمةLifelong learning باعتبارها مساراً حرجاً وضرورياً لمواجهة القضايا التربوية العالمية وتحديات المستقبل، وأيضاً باعتباره فلسفة، أو إطاراً نظرياً ومبدأ ينتظم كافة أشكال التعليم التي تقوم على حقوق الإنسان والإنصاف، والتحرر، والقيم الإنسانية والديمقراطية، والتي تتكامل مع مجتمع المعرفة، وتقوم على المبادئ الأربعة للتربية في القرن الحادي والعشرين التي وضعتها اللجنة الدولية للتربية وهي: "تعلم لتعرف"، "تعلم لتعمل"، "تعلم لتتعايش مع الآخرين"، "وتعلم لتكون".
وفي مايو 2015 أثناء المنتدى العالمي للتربية 2015، صدر "إعلان إنشيون" الذي تعهدت فيه الدول المشاركة، والجهات المعنية بالتعليم على الصعيد العالمي بتنفيذ جدول أعمال جديد للتعليم هو ”التعليم حتى عام 2030“ ـ والذي يتسم بالشمول والطموح والذي نص على حق الإنسان في التعليم وعلى ضرورة ألا يُترك أحد بدون تعليم. كما دعا هذا الإعلان إلى اتخاذ إجراءات جريئة وعاجلة لتغيير حياة الناس من خلال رؤية جديدة للتعليم، وعهد إلى ”اليونسكو“، بصفتها وكالة الأمم المتحدة المعنية بالتربية والتعليم، بمواصلة الاضطلاع بالدور المنوط بها فيما يخص ريادة وتنسيق جدول أعمال التعليم حتى عام 2030. وأوصى بأن يحتل التعليم حتى عام 2030 مكانة الصدارة على المستوى الوطني، وأن على عاتق الحكومات تقع المسؤولية الأساسية في ضمان نجاح عمليات التنفيذ والمتابعة والتقويم.
ومن ثم اتخذت الدول الأعضاء في الدورة السبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا في 25 سبتمبر 2015 باعتماد وثيقة خطة التنمية المستدامة لعام 2030 وتعهدت "بتوفير التعليم الجيد المنصف والشامل على كافة المستويات في مرحلة الطفولة المبكرة، والتعليم الابتدائي والثانوي والعالي، والتدريب في المجال التقني والمهني"، كما تضمنت الخطة المذكورة 17 هدفاً طموحاً. من بينها الهدف الرابع الذي ينص على "ضمان التعليم الجيد والمنصف والشامل للجميع وتعزيز فرص التعلم مدى الحياة للجميع" بحلول عام 2030((Nassar 2017
ثانيا: الحق في التعليم في مصر: إطلالة على الماضي والحاضر:
مع بناء مصر الحديثة في عهد محمد على، وبداية القرن التاسع عشر كان التعليم مجانياً وحكومياً، وكانت الدولة متكفلة بجميع تكاليف تعليم التلاميذ ورعايتهم، ومعروف أن هذه الفترة شهدت توسعاً كبيراً في التعليم بكل مراحله وأنواعه، وكان متاحاً لجميع أبناء الشعب المصري.
وقد شهد التعليم في مصر تراجعاً في عهد أبناء محمد على، نتيجة لتقلص المشروع النهضوي في مصر، وصاحب ذلك ظهور الطبقة البرجوازية المصرية الجديدة التي ارتبطت مصالحها بالأجانب والمتمصرين، وهنا بدأ الحديث يدور حول إلغاء مجانية التعليم، وحول حق أبناء الطبقات الفقيرة في التعليم، خاصة أن كثيرين منهم وصل إلى الوظائف العليا في الدولة، الأمر الذي توجس منه أبناء الطبقات الارستقراطية خيفة على مواقعهم ومصالحهم.
ومعروف أن الخديوي إسماعيل قد حاول إحياء مشروع النهضة المصرية مرة أخرى، ولكن مع تراكم الديون وسيطرة الأجانب، وامتداد نفوذهم في مصر، نجد رياض باشا ناظر المعارف في أواخر عهد إسماعيل، ووكيله يعقوب أرتين يدعوان إلى إلغاء المجانية. وفي كتابه "القول التام في التعليم العام" يسوق يعقوب أرتين مبررات إلغاء المجانية أنقله بنصه "وحيث قد قدرنا الأطفال الذكور الذين بلغوا سن التعليم بالديار المصرية 500.000 طفل ورأينا أنه لم يكن في طاقة الحكومة أن تقوم بتعليم أكثر من 7800 تلميذ من هذا العدد، فهل مع ذلك يصح عقلاً أن يتعلم بعض هذا العدد مجاناً في المدارس؟ أوليس من الصواب تكليف الجميع على السواء بدفع المصاريف المدرسية حتى نحصل على إيراد جديد ليساعدنا على نشر التعليم؟ ومن جهة أخرى هل يجوز الإقرار على المجانية مع أنه ليس في وسعنا نشر التعليم بين جميع أبناء البلاد؟ وهل من العدل أن نجعل بعض أولاد الممولين يتمتعون بمزايا التعليم دون البعض الآخر الذي هو السواد الأعظم؟ وفضلاً عن ذلك فإن المجانية تعطى إلى من ليسوا أهلا لها، وتوجب هماً عظيماً لموظفي النظارة، وليس من سبيل لحسم ذلك سوى محو المجانية نفسها" (يعقوب أرتين 2010).
وكانت لآراء يعقوب أرتين أثرها إذ سرعان ما أصدر رياض باشا لائحته بمصروفات التعليم، ولكنها لم تجد سبيلها إلى التطبيق إلا مع مجيء الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1882، حيث تحالفت الارستقراطية المصرية مرة أخرى مع سلطات الاحتلال حتى تم إلغاء المجانية تماماً. وكانت آراء اللورد كرومر حول المجانية، وكيف أنها السبب في كسل الطلاب وتراخيهم، هي الغطاء والمبرر أمام المسئولين الذين اشتطوا في فرض الرسوم الدراسية، وتشددوا في تحصيلها وعدم الإعفاء منها. ومن عجب أن آراء كل من يعقوب أرتين واللورد كرومر ظلت هي الأساس الذي انطلقت منه دعاوى إلغاء المجانية حتى الآن، حيث ما زلنا نسمع أن على المواطن أن يدفع فاتورة تعليمه حتى يقبل على التعليم باهتمام.
وعندما نالت مصر استقلالها الجزئي عام 1922 لم يتغير الوضع كثيرًا، حيث ظل تعليم أبناء الأغنياء في رياض الأطفال والمدارس الابتدائية والثانوية والجامعة بمصروفات، بينما أنشئت لأبناء الفقراء مدارس أولية متخلفة في مناهجها ومبانيها على نحو يعكس التفاوت الطبقي في المجتمع.
وقد أدى غياب النص الدستوري الحامي والراعي للحق في التعليم في وثيقة دستور 1923 إلى استمرار هذا الوضع الذي أدى إلى انتشار الأمية بين الفقراء من أبناء مصر، حيث اقتصرت المادة 19 من هذا الدستور على "إلزامية ومجانية التعليم الأولي" الذي كان لا يتعدى مستواه مستوى محو الأمية.
وقد أتت حركة التنوير المصرية أكلها خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، حيث حفلت مصر بالكثير من التيارات الفكرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي وجهت حركة النضال الشعبي ضد الاحتلال والملكية والظلم الاجتماعي، واختلطت الأفكار الليبرالية، والماركسية، والاشتراكية والفاشية والإسلامية، وانتظمت في حركة نضال واسع ضد مظاهر التخلف الذي كانت تعانى منه مصر، وكانت الديمقراطية والعدالة الاجتماعية هي الغاية والهدف الذي سعت إليه مختلف الأحزاب والقيادات الفكرية والسياسية كل على طريقته وفهمه، ومن هنا يظهر الجدل مرة أخرى حول المجانية في أوساط النخبة المصرية. (سامي نصار 2016).
ويصدر طه حسين كتابه مستقبل الثقافة في مصر 1938 ليؤكد ضرورة أن تكفل الدولة تكاليف التعليم باعتباره ضرورة من ضرورات الأمن القومي أو على حد تعبيره (الدفاع الوطني). حيث قال: "لابد إذا من نشر التعليم العام من جهة إلى أقصى حدود النشر، ولا بد من حماية المدارس والمعاهد من هذا الازدحام الشنيع الذي يفسد التعليم إفساداً، ولابد من أن تدبر الدولة ما يحتاج إليه ذلك من المال، كما تدبر ما يحتاج إليه الدفاع الوطني من المال". (طه حسين 1983)
وكان إسماعيل القباني على الطرف الآخر من القضية معتبراً – من منظور فني ومهني بحت – أن إتاحة التعليم للجميع تؤثر على جودته، ومن ثم نادي بمجانية التعليم في المدارس الأولية التي تفتح أبوابها للفقراء، أما التعليم الابتدائي والثانوي والعالي فهو للقادرين مادياً.
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية بانتصار المعسكر الغربي والاشتراكي على المعسكر الغازي والفاشي تنتشر في مصر أفكار العدالة الاجتماعية ويصدر نجيب الهلالي ومستشاره طه حسين تقريراً عن إصلاح التعليم عام 1944، يرد فيه لأول مرة في الخطاب الحكومي المصري ذكر مبدأ تكافؤ الفرص التعليمية، وإلغاء المصروفات في مرحلة التعليم الابتدائي. وإلغاء المصروفات عام 1951 للتعليم الثانوي الذي أصبح في نظره ضرورة، وليس ترفاً للنهضة الحضارية، وبذلك أصبح التعليم الابتدائي والتعليم الثانوي بالمجان.
وبعد ثورة يوليو 1952 تم إعلان الاشتراكية أيديولوجية حاكمة للعمل، وإعلان مبدأ تكافؤ الفرص، وتذويب الفوارق بين الطبقات، وتميزت هذه الفترة بإضفاء الحماية الدستورية الشاملة على حق التعليم، وبقية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ففي دستور عام 1956، نصت المادة 49 بشكل واضح وصريح لأول مرة في الدساتير المصرية على أن "التعليم حق للمصريين جميعاً تكفله الدولة بإنشاء المدارس والمؤسسات الثقافية والتربوية والتوسع فيها تدريجيًا، وتهتم الدولة خاصة بنمو الشباب البدني والعقلي والخلقي" كما أوكلت المادة 50 مسئولية التعليم إلى الدولة حيث نصت على أنه "تشرف الدولة على التعليم العام وينظم القانون شئونه، وهو في مراحله المختلفة بمدارس الدولة بالمجان في الحدود التي ينظمها القانون" ويرد في هذا الدستور لأول مرة في مصر نص عن إلزامية التعليم الابتدائي فقد نصت المادة 51 على أن "التعليم في مرحلته الأولى إجباري وبالمجان في جميع مدارس الدولة".
وقد سار دستور 1971 في ذات الاتجاه فقد نصت المادة 18 منه على أن "التعليم حق تكفله الدولة، وهو إلزامي في المرحلة الابتدائية، وتعمل الدولة على مد الإلزام إلى مراحل أخرى، وتشرف الدولة على التعليم كله، وتكفل الدولة استقلال الجامعات ومراكز البحث العلمي وذلك بما يحقق الربط بينه وبين حاجات المجتمع". كما أكدت المادة 20 أيضاً على أن "التعليم في كل مؤسسات الدولة مجاني في مراحله المختلفة" أي من المرحلة الابتدائية حتى الجامعة".
وفي دستور 2014 نصت المادة 19 على أن: ”التعليم حق لكل مواطن، هدفه بناء الشخصية المصرية، والحفاظ على الهوية الوطنية، وتأصيل المنهج العلمي في التفكير، وتنمية المواهب وتشجيع الابتكار، وترسيخ القيم الحضارية والروحية، وإرساء مفاهيم المواطنة والتسامح وعدم التمييز، وتلتزم الدولة بمراعاة أهدافه في مناهج التعليم ووسائله، وتوفيره وفقاً لمعايير الجودة العالمية. والتعليم إلزامي حتى نهاية المرحلة الثانوية أو ما يعادلها، وتكفل الدولة مجانيته بمراحله المختلفة في مؤسسات الدولة التعليمية، وفقاً للقانون "التعليم الإلزامي، والتعليم المجاني" وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للتعليم لا تقل عن 4% من الناتج القومي الإجمالي، تتصاعد تدريجياً حتى تتفق مع المعدلات العالمية..."
وتتميز هذه المادة عن غيرها من مواد الدساتير السابقة بعدد من الأمور تمثل التزامات جديدة على الدولة المصرية في مجال إقرار حقوق المواطن المصري في التعليم وهي:
مراعاة معايير الجودة في التعليم.
مد الإلزام حتى نهاية المرحلة الثانوية.
تخصيص نسبة 4% من إجمالي الناتج القومي للإنفاق على التعليم.
وبالإضافة إلى هذا النص الدستوري، فإن هناك تعهداً آخر بتوفير حق التعليم للجميع صدر عن الدولة المصرية وتبلور في هدف الرؤية الاستراتيجية للتعليم في إطار استراتيجية التنمية المستدامة 2030 والذي نص على: تستهدف الرؤية الاستراتيجية للتعليم حتى عام 2030 إتاحة التعليم والتدريب للجميع بجودة عالية دون التمييز، وفي إطار نظام مؤسسي، وكفء وعادل، ومستدام، ومرن. وأن يكون مرتكزاً على المتعلم والمتدرب القادر على التفكير والمتمكن فنياً وتقنياً وتكنولوجياً، وأن يساهم أيضاً في بناء الشخصية المتكاملة وإطلاق إمكاناتها إلى أقصى مدى لمواطن معتز بذاته، ومستنير، ومبدع، ومسئول، وقابل للتعددية، يحترم الاختلاف، وفخور بتاريخ بلاده، وشغوف ببناء مستقبلها وقادر على التعامل تنافسياً مع الكيانات الإقليمية والعالمية. (مصر- استراتيجية التنمية المستدامة- رؤية مصر 2030)
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: إلى أي مدى يمكننا القول بأننا في مصر قد استطعنا الوفاء بحق المواطنين في التعليم في ضوء مؤشري الإتاحة والجودة اللذين وردا في الدستور وفي استراتيجية التنمية المستدامة 2030؟
1 - من حيث الإتاحة:
يعتبر نظام التعليم المصري من أكبر نظم التعليم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومع ذلك يعاني من خلل بنيوي ووظيفي. وقد حققت مصر تقدماً في إتاحة الفرص التعليمية ضماناً لتطبيق الحق في التعليم فارتفعت معدلات القيد بمختلف مراحل التعليم قبل الجامعي بحيث تقترب من المعدلات العالمية.
يضم التعليم قبل الجامعي المصري 20 مليون طالب موزعين على المراحل التالية:
(أ) رياض الأطفال غير الإلزامي لمدة عامين.
(ب) التعليم الأساسي الإلزامي: الصفوف الدراسية الأول إلى التاسع.
(ج) التعليم الثانوي الإلزامي: الصفوف الدراسية العاشر إلى الثاني عشر.
ويضم نظام التعليم قبل الجامعي المصري حوالي ٥٧٠٠٠ مدرسة منهم ٤٩٠٠٠ مدرسة حكومية عربية + ٧٠٠٠ مدرسة خاصة لغات + ٧٥٠ مدرسة تجريبية لغات + ٢٥٠ مدرسة دولية (تمنح شهادة أجنبية).
وفيما يلي معدلات القيد بمختلف مراحل التعليم قبل الجامعي في مصر في العام الدراسي 2017/2016.
• معدلات القيد برياض الأطفال:
يبلغ عدد الأطفال المقيدين برياض الأطفال 1244052 طفلاً منهم 645172 من البنين و598880 من البنات وذلك بنسبة 31% وهي نسبة ليست أقل من المعدلات العالمية فقط، بل تعد أدنى نسبة بين بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وجدير بالذكر أن مرحلة رياض الأطفال لم تدخل ضمن سلم التعليم الإلزامي في مصر حتى الآن. (وزارة التربية والتعليم - الإدارة العامة لنظم المعلومات: 2017)
• معدلات القيد بحلقة التعليم الابتدائي:
يبلغ عدد الأطفال المقيدين بالتعليم الابتدائي 11074835 تلميذا بمعدل التحاق صافي بلغ 99% من الفئة العمرية 6-12 سنة وذلك عام 2016/ 2017. من بينهم 5368263 من البنات و5706572 من البنين.
• معدلات القيد بحلقة التعليم الإعدادي:
بلغ إجمالي عدد المقيدين بالتعليم الإعدادي في كل من المدراس الحكومية والخاصة،4725732 تلميذا، بنسبة 94% من الأطفال في سن المرحلة الإعدادية، منهم 2313127 من البنات و2412605 من البنين.
• معدلات القيد بمرحلة التعليم الثانوي:
تجاوز معدل القيد بمرحلة التعليم الثانوي 77% في حين ظل معدل القيد الصافي للشريحة العمرية (15-17) قريبًا من نسبة 60%، يخص التعليم الفني منها أكثر من النصف بقليل (65%) ويضم التعليم الصناعي 28% من الطلاب، والزراعي 6%، والتعليم التجاري الثانوي 21% .
يستحوذ التعليم الثانوي العام حالياً على ما يقرب من 45% من جملة الطلاب الملتحقين بالتعليم الثانوي بنوعيه، وهي نسبة مرتفعة إذا قورنت بسنوات سابقة كان نصيب الثانوي العام منها في حدود33% وتشير الإحصاءات إلى أن 80% من التعليم الثانوي يقع تحت مظلة التربية والتعليم ويتوزع الباقي بين التعليم الخاص والأزهري.
• القيد بالتعليم الخاص:
يشكل التعليم الخاص 15% من نظام التعليم في مصر. وتستوعب المدارس الخاصة 24% من تلاميذ رياض الأطفال، و8% من تلاميذ المدارس الابتدائية، و7% من طلاب المدارس الإعدادية، و13% من طلاب التعليم الثانوي العام، و6% من طلاب التعليم الثانوي الفني.
ويشير ما سبق إلى أن مصر قد حققت تقدماً على صعيد تحقيق الإتاحة وتوفير الفرص التعليمية، فماذا عن جودة هذه الفرص؟
2 - من حيث الجودة:
تدل المؤشرات المحلية والعالمية على انخفاض جودة التعليم في مصر، حيث يشير تقرير التنافسية العالمية لعام 2017/2016 إلى أن مصر احتلت المرتبة 135 من بين 138 في جودة التعليم بصفة عامة، واحتلت أيضاً المرتبة 130 في جودة تدريس العلوم والرياضيات، والمرتبة 133 في توافر الانترنت بالمدارس.
ومن أهم مؤشرات انخفاض جودة التعليم قبل الجامعي ما يلي:
(ا) لا يُحقِّق النظام مخرجات التعلُّم والمهارات والقدرات اللازمة لمواصلة التعليم والانتقال إلى سوق العمل.
فهناك واحد من كل خمسة تلاميذ في الصف الدراسي الثالث لا يمكنه قراءة حرف واحد أو كلمة واحدة من نص للقراءة، ويدخل الصف الرابع وهو على مستوى الأمية الوظيفية. ومن ثمَّ، لا غرابة في أن نصف عدد الشباب (لا يقتصر ذلك على الطلاب) الذين حصلوا على خمس سنوات من التعليم فقط يمكنهم القراءة أو الكتابة، وأن أقل قليلاً من الثلثين يمكنهم أداء عمليات الحساب الأساسية (الجمع أو الطرح). ومعدلات الرسوب وإعادة الصف الدراسي مرتفعة، إذ تبلغ 5.8% لتلاميذ المرحلة الابتدائية، و11.2% لطلاب المرحلة الثانوية على التوالي. وتُظهِر نتائج مصر في دراسة الاتجاهات الدولية في مادتي الرياضيات والعلوم لعام 2015 أن 47% فحسب من طلاب الصف الدراسي الثامن وصلوا إلى معيار الأداء الدولي "المنخفض" في الرياضيات بالمقارنة مع المتوسط الدولي البالغ 84% (وفي مادة العلوم للصف الثامن كانت النتيجة 42% و84% على الترتيب). ويسهم التفاوت بين نوع ومستوى المعارف والمهارات المطلوبة في سوق العمل وتلك التي يفرزها التعليم العام والتعليم والتدريب الفني والمهني في الارتفاع الكبير في معدلات البطالة بين خريجي التعليم العالي حيث تبلغ نسبة البطالة بينهم 23.1 % بينما تبلغ 11.3% لخريجي التعليم الثانوي العام والفني.
(ب) انخفاض مستوى طلاب التعليم الثانوي الفني وضعف مهاراتهم:
فطلاب التعليم الثانوي الفني يمثلون نسبة تزيد عن 70% من جملة الطلاب المقيدين في المرحلة الثانوية، ومن المعروف أن التعليم الفني يستوعب خريجي المرحلة الإعدادية من أبناء الفقراء الحاصلين على أدنى الدرجات، فضلاً عن انخفاض مستوى معلميه، وتدني تجهيزاته وتخلف مناهجه. ويفتقد خريجو التعليم الفني إلى الكفايات الفنية في مجال تخصصهم بل إلى المهارات الأساسية في القراءة والكتابة.
(ج) تراجع ترتيب على المؤشر العام للتنافسية العالمية:
يتبدى النظام التعليمي المصري في تراجع ترتيب على المؤشر العام للتنافسية العالمية، ففي تقرير2011/2010 احتلت مصر المرتبة81 ليتأخر ترتيبها في تقرير 2012/2011 لتحتل المرتبة 94. أما في التقرير الأخير2017/2016 يتأخر ترتيب مصر ليصل إلى المرتبة 115 وبمتوسط درجات انخفض إلى 3.57.
(د) تشوه بنية النظام التعليمي:
اتخذت بنية النظام التعليمي في مصر أشكالاً مختلفة تعكس التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدها المجتمع المصري، وما فرضته هذه التطورات على سياسات التعليم وهياكله وأنواعه من تغيرات. ويشير عدد من الدراسات والتقارير الإقليمية والدولية إلى أن بنية النظام التعليمي في مصر خلال العقدين الأخيرين لم تعد موحدة أو متسقة، بل أصبحت بني متعددة أو متوازية تتبادل فيما بينها عمليات الاستبعاد. وكانت النتيجة أن أصبح لدينا نوعان من التعليم يدفع المواطنون تكلفتهما:
تعليم عام حكومي، مجاني، لعامة الشعب يضم ما يزيد عن 70% من التلاميذ في مسارين مدني في المدارس التابعة لوزارة التربية والتعليم، وديني في مدارس الأزهر ومعاهده. ويعاني هذا النوع من التعليم من تدهور العملية التعليمية نتيجة عجز الموارد المالية، وارتفاع كثافة الفصول، وتخلف طرق التدريس واستراتيجياته، ونظم الامتحانات والتقويم. إنه باختصار تعليم ضعيف المستوى، فقير الإمكانات، هزيل العائد أو المردود يتحمل فيه المواطنون دروس خصوصية ومجموعات تقوية وكتب خارجية.
تعليم خاص متميز، متعدد المستويات، متنوع اللغات والانتماءات قاصر على أبناء الطبقات الميسورة والغنية يتحمل تكلفته المستفيدون منه، وتشجع عليه الدولة. ويتنوع هذا النوع من التعليم تنوعاً شديداً، فهناك تعليم خاص باللغة العربية، وهناك تعليم خاص يتم باللغات الأجنبية، وهناك تعليم خاص دولي وآخر ذو صبغة إسلامية وغيرها.
(هـ) ضعف الموازنة وسوء حالة المباني المدرسية
حيث بلغ إجمالي موازنة التربية والتعليم 80 مليار جنيه في العام 2018/2017، خصص منها 94% للرواتب والأجور كما خصص لهيئة الأبنية التعليمية حوالي 5 ونصف مليار جنيه مما يعني استمرار مشكلة المباني المدرسية، وعدم تحقيق الاستيعاب الكامل للتلاميذ، بالإضافة إلى نقص التجهيزات والمعامل وتكنولوجيا التعليم، فضلاً عن ارتفاع كثافة الفصول.
ويشير تقرير صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2016 إلى أن عدد القرى في مصر 4655 قرية، وأن نحو 60% من القرى تحتاج إلى إنشاء مدارس وأن المدارس الابتدائية الحكومية موجودة في 95.3% من القرى، لكن المدارس الثانوية موجودة في 18.2% منها فقط. وأن المدارس الإعدادية الحكومية موجودة في 82% من القرى، وتتمتع 85% من قرى بوجود مدارس ابتدائية وإعدادية في نفس الوقت. وأوضح التقرير، أن 3.8% فقط من القرى توجد بها مكتبات عامة ثابتة، و2.8% بها مكتبة للطفل، و20% بها مراكز خدمات تعليمية.
ثالثا: الحق في التعليم في مصر: نظرة إلى المستقبل:
يشير ما تقدم أن هناك فجوة علينا في مصر أن نجتازها، فجوة تفصل بين إقرار الدولة بحق المواطنين في التعليم وبين اتخاذها السبل الكفيلة بجعل هذا الحق واقعاً معيشاً يتمتع به أبناء مصر كافة حسب ما نصت عليه المواثيق الدولية التي أقرتها مصر، ومواد الدستور الصادر في عام 2014 الذي وافق عليه الشعب المصري.
ولا شك أن عبور هذه الفجوة ليس سهلاً ولا يسيراً، بل هو يمثل أكبر التحديات التي تواجهها مصر الآن، وفي سبيل ذلك تم طرح مشروع لتطوير التعليم يتضمن عدداً من الإصلاحات في بعض جوانب العملية التعليمية، ولكن نجاح أي جهد لتوفير الحق في التعليم، رهن بالنظر إلى إصلاح التعليم باعتباره حركة اجتماعية تقود المجتمع سياسيًا واقتصاديًا واجتماعًيا، وتستنفر فيها الجماهير ومؤسسات المجتمع المدني، وتعبأ فيها مختلف الموارد لتحقيق هذا الهدف.
وتستلزم النظرة إلى الإصلاح التربوي باعتباره حركة اجتماعية تستهدف توفير حق التعليم للجميع الوفاء بعدد من الشروط من أهمها:
بناء مجتمع العدالة والإنصاف من خلال اعتماد التعلم مدى الحياة حقاً وفلسفة تحكم العمل التربوي بكافة أنواعه في مصر، على نحو يؤدي إلى الإسهام في توسيع نطاق فرص مواصلة التعليم والتعلم أمام الجميع، وتكوين رأس المال البشري، وتراكم رأس المال الاجتماعي، وذلك من خلال تحقيق التكامل بين التعليم النظامي والتعلم غير النظامي وخلق مساحات للتكامل والتعاضد بينهما، وبناء نظام الاعتراف بنواتج التعلم غير النظامي الذي يحصل عليها الأفراد وخاصة الشباب خارج المدرسة، والتصديق عليها واعتمادها مما يجعل من التعلم مدى الحياة واقعاً، ويضفي قيمة ويجسد الكفايات التي اكتسبها الأفراد بمختلف الوسائل ومن مختلف المواقف التي مروا بها خلال مراحل حياتهم، مما يحسن من تقدير الأفراد لذواتهم ويرفع من مستوى رفاهيتهم، ويدفعهم لمواصلة التعلم، ويزيد من فرصهم في سوق العمل.
تعديل وإصدار التشريعات التي تضمن تفعيل مبدأ الحق في التعليم، وفق ما كفله الدستور المصري والتشريعات والقوانين، وإقرار وضمان استمراريته، لمن توقفوا عن التعليم لسبب أو لآخر ويودون مواصلة تعليمهم، وكذلك توفير تغطية قانونية لضمان الاعتراف بالشهادات والخبرات المكتسبة من برامج التعلم غير النظامي ومن مواقع العمل.
ومن شروط نجاح برامج الإصلاح التعليمي باعتباره حركة اجتماعية ضرورة إعادة ترتيب الأجندة الاجتماعية، فالسياسات الاجتماعية التي تطبقها الدولة لها تداعياتها على النظام التعليمي، فإذا كانت هذه السياسات تعكس انحياز الدولة إلى فئة أو فئات معينة، فإن برامج الإصلاح التربوي سوف تعكس بالضرورة هذا الانحياز، وسوف يهيمن عليها الإقصاء والاستبعاد. ومن ثمَ فإن نجاح برامج الإصلاح التعليمي رهن بإعادة ترتيب الأجندة الاجتماعية لصالح المستضعفين والمهمشين في الحياة الاجتماعية، وحمايتهم من مخاطر السوق الحر وتجاوزاته مما يخلق إرادة جماعية جديدة تكون بمثابة رأس المال الاجتماعي الذي يمثل قوام الأمة وقلبها النابض بالحياة.
ويرتبط بالشرط السابق شرط آخر، وهو أن الاندماج وتكوين الإرادة الاجتماعية أو رأس المال الاجتماعي لا يمكن أن يتم إلا بتحقيق الديمقراطية في حياة الناس اليومية. وبما أن التعليم هو أحد الهموم اليومية الرئيسة للمواطن المصري، فإن برامج الإصلاح التعليمي لابد أن تكون ساحة للحوار الديمقراطي، تشارك فيها كل فئات المجتمع صياغة لأهدافه، وترتيبًا لأولوياته، وتحديدًا لمسئولياته، وتعبئة لموارده وعوائده التي تهم الفقراء والمهمشين بقدر ما تهم الأغنياء وأبناء الطبقة الوسطى، لأنها ليست مجرد عوائد رمزية أو معنوية مجردة، وإنها هى عوائد تشكل حياة الناس جميعًا ومواقعهم وأدوارهم في الحياة الاجتماعية، كما تشكل مكانة المجتمع ودوره في عصر الديموقراطية والمعرفة والتقدم التكنولوجي.
إن بناء الإرادة الجماعية وتكوين رأس المال الاجتماعي رهن بوجود نظام تعليمي قومي يوفر التعليم الجيد لجميع أبناء مصر دون تمييز أو إقصاء وتنويع فرص التعلم مدى الحياة أمامهم. وذلك وفقاً للمادة (19) من دستور 2014 .
وينبغي هنا وضع سياسة تعليمية مستقرة تؤهل المجتمع المصري للعيش في مجتمع المعرفة والتفاعل مع معطيات الثورة العلمية، من خلال:
1. اعتبار تطوير التعليم مشروع مصر القومي للعشرين سنة القادمة، بحيث يتحول التعليم إلى قاطرة تقود حركة التنمية في مصر من خلال إنتاج المعرفة التي تستلزمها الثورة الصناعية الرابعة، وبحيث يتجاوب مع متطلبات اقتصاد المعرفة ويكون قادراً على إعداد جيل جديد ذي عقلية ناقدة ومبدعة ومبتكرة وقادر على المنافسة في سوق العمل العالمي.
2. إعادة السواء لبنية التعليم قبل الجامعي، وعلاج ما لحق بها من تشوهات بسبب تعدد أنواع التعليم، وتنظيم هذه الانواع من التعليم وتفعيل إشراف الوزارة عليها، في إطار نظام تعليمي قومي متطور وفعال يعيد الاعتبار إلى المدارس والجامعات الحكومية، ويستعيد ثقة المجتمع فيها باعتبارها المؤسسات الرسمية التي تتبع الدولة وتديرها وتشرف عليها بشكل مباشر من أجل توفير التعليم الجيد لجميع أبناء المجتمع دون تمييز أو تفرقة، وبحيث تمثل النموذج في ممارساتها التعليمية ومناهجها وفي مستوى معلميها وخريجيها.
3. تطوير التعليم الفني بحيث يكون أساساً لبناء القوى العاملة الماهرة التي يمكن أن تسهم في صنع التقدم الاقتصادي في مصر بدلاً من أن يكون نوعاً من أنواع تعليم الفقراء. فمن المؤسف أن طلاب التعليم الفني يمثلون أكثر من ثلثي طلاب المرحلة الثانوية ولا يلقون أي نوع من الإعداد الثقافي أو المهني الذي يؤهلهم للتكيف مع المجتمع أو الإسهام في سوق العمل، بل لا يلقون أي نوع من الاهتمام رسمياً أو شعبياً أو إعلامياً. وللعلم أيضاً فإن نهضة عدد من النمور الاسيوية ومن بينها الهند جاء نتيجة الاهتمام بالتعليم الفني وتوجيهه نحو تكنولوجيا المعلومات والاتصال والاهتمام بنوعية خريجيه.
4. تجديد بنى التعليم الجامعي وبرامجه وتخصصاته بحيث يكون جزءاً من حركة التطور في التعليم العالي السائدة في العالم الآن وقادراً على المنافسة عالمياً وإقليمياً، ومسهما في مد المجتمع بالقوى البشرية اللازمة لتحقيق التنمية الشاملة.
5. تطوير الوظيفة البحثية للجامعة وتوفير الإمكانات المادية والبشرية اللازمة لها مع التوسع في إنشاء الجامعات البحثية والتكنولوجية وربطها بقطاعات الإنتاج والصناعة والاقتصاد على نحو يمكنها من المنافسة عالمياً في إنتاج المعرفة والمساهمة في تقدم العلم والفكر الإنساني وفي الإبداع الفني والابتكار التكنولوجي.